الحركة الرومنسية أدّت دوراً فاعلاً في تحديد طريقة اللباس في القرن التاسع عشر. تلك واحدة من ملاحظات كثيرة بنت عليها م. ن. ميرتسالوفا كتابها المرجعي «تاريخ الأزياء». من خلال رصد تطوّر علاقة البشر بملابسهم، تأخذنا الباحثة الروسية، التي دخلت أخيراً المكتبة العربيّة، في رحلة عبر التاريخ والأدب وحضارات الشعوب. هل كانت ورقة التوت التي سترت عري آدم وحواء، لحظة خروجهما من الجنة، أول محاولة للبشر في صناعة اللباس؟ هكذا أقلّه، تخبرنا المدوّنات التاريخية والميثولوجية. لكنّ الباحثة الروسية م. ن. ميرتسالوفا تقترح في «تاريخ الأزياء» (الهيئة العامة السورية للكتاب ـــــ تعريب آنا عكاش)، تاريخاً آخر لتطوّر الأزياء، بتتبع ظهور الممالك القديمة على تخوم النيل ودجلة والفرات، لنتعرّف إلى أشكال الملابس في الممالك المصرية والآشورية والبابلية.

لم يكن اللباس في مصر الفرعونية، في ممالكها الأولى معقداً، لكننا سنكتشف فروقاً بين لباس السادة والعبيد لجهة الملمس الناعم للطبقة الأولى، والخشن للطبقة الثانية. كذلك لن نجد اختلافاً بين لباس النساء ولباس الرجال. وتضيء رسوم الفن المصري القديم على طبيعة أزياء تلك الفترة: قميص ضيّق وتنورة مكسّرة، وغطاء للرأس، وأدوات زينة مثل الخلاخل والأساور والقلائد. وللشعوب المحاربة كالآشوريين، كان اللباس موحداً، عدا لباس الملك الذي تزيّنه رسوم هندسية تدخل فيها صفائح معدنية أو ذهبية. ويتميّز لباسه باللون الأبيض والمعطف الأرجواني، وقلنسوة مخروطية من اللباد تنتهي بأكليل من الذهب.

ولعل تطور صناعة الصباغة في الدولة الآشورية أسهم في إضافة ألوان جديدة كالأحمر والبني، فيما ظل الأرجواني وطريقة صباغة الصوف سرّاً لا يعرفه إلا البابليون والآشوريون.

وإذا توغلنا نحو بلاد فارس، سنجد لباساً يتألف من قفطان قصير وسروال مصنوع من الجلد أو الفرو المقلوب إلى الداخل، ... وتشهد الأقمشة الفارسية تطوراً بعد احتلال بلاد فارس للهند. أما عن الزيّ في دولة قوية مثل اليونان القديمة، فالآثار الفنية المبكرة توضّح أن اللباس كان يتميز بالبساطة والصرامة لدى الإسبارطيين بما يستجيب لحركة الجسد، فتكثر الخطوط الدائرية والبيضاوية المتصالبة في تفصيل القماش. فيما يختلف لباس الحرفيين والعبيد عن لباس المحاربين، وتتميز أزياء النساء في الفترة الكلاسيكية برشاقة الخطوط. ولا تختلف أزياء الرومان عن الأزياء اليونانية لجهة الجلال والبساطة. بازدهار الإمبراطورية البيزنطية بين القرنين الرابع والسابع، شهدت الأزياء تأثيرات شرقية، إذ ظهرت الزخرفة والتطريزات الكبيرة. لكنّ تأثير الكنيسة بدا واضحاً عبر انتشار الملابس البسيطة التي تغطي الجسد. وتربط الباحثة بين طراز العمارة في بداية القرون الوسطى وشكل الملابس. أشكال الطراز الروماني الفخم في القرنين 11 و12 تتجسد في وحدة متناغمة مع تصميم ملابس تلك الفترة.

 مفهوم الفروسية سيؤثر على شكل لباس الرجال في أوروبا، وخصوصاً لباس الإقطاعيين. فيما أُرغمت النساء على ارتداء فساتين محتشمة تنتهي بأشرطة ملوّنة ومطرّزة. لكن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، بتأثير ما كان يكتبه الشعراء الفرسان في تمجيد الأنوثة... إضافة إلى التأثيرات الشرقية على الزيّ الأوروبي لجهة التطريز. وستشهد المرحلة اللاحقة ظهور حمّالة الصدر والملابس الداخلية، وتعرية الكتفين والصدر. مع نهاية القرن الخامس عشر، وبتأثير النهضة الإيطالية، سيتراجع الطراز القوطي لتكتسب الأزياء خطوطاً هادئة. وسينتشر فستان العروس بلونه الأحمر، حتى ظهرت ماري ستيورات بفستان أبيض.هكذا بدأت حضارة فلورنسا تمتد لتتجاوز حدود إيطاليا عبر الملابس الراقية والاحتفالية. أما في إسبانيا، فتراجعت الحداثة تحت سطوة محاكم التفتيش التي فرضت نمطاً محافظاً من اللباس. انتصار الملكية المطلقة في فرنسا القرن السادس عشر أصاب الزي بتغييرات جذرية، تتعلق بنظام الطبقات الاجتماعية، وما يسمى موضة باريس التي ميّزت بين ثياب النبلاء وثياب العامة، كما انتشرت الدانتيلا والأقمشة المخططة والألوان. وكان لانتشار المراكز الصناعية في المدن الأوروبية مطلع القرن التاسع عشر تأثيراته على الأزياء. كذلك أدّت الحركة الرومانسية في الأدب دوراً في خطوط الموضة. الكاتبة الفرنسيّة جورج صاند كانت أول امرأة تغامر بارتداء البنطلون الرجالي والجيليه.تدريجاً، ستتراجع الأنوثة الرومانسية الهشّة التي وصفها بلزاك في روايته «بياتريس»، لتفسح في المجال أمام الجمال الجسدي الأرضي بوصفه موضوعاً للإجلال. هكذا شهدت ستينيات القرن التاسع عشر أول دار للأزياء في باريس، لتتخذ التنورة شكلاً آخر أكثر انسيابية، وانتشرت المعاطف والفساتين القصيرة، بما يساعد على حرية الحركة بعد انتشار السكك الحديدية، فكانت الحاجة إلى أزياء أكثر عصرية، وإذا بحذاء الورنيش الأسود هو الحذاء الأنيق للسهرات.
وصول فرقة الباليه الروسية «دياغيليفيا» إلى باريس مطلع القرن العشرين أذهل الباريسيين لجهة تصميم الملابس ورشاقة خطوطها، والولع بالتوليف بين الألوان، كما تركت الأزياء اليابانية روحها في الأزياء الأوروبية. بانتهاء الحرب العالمية الأولى، وصلت المفارقات إلى أقصاها، فانتصر الفستان القصير وقصّة الشعر القصيرة، وصارت الجوارب جزءاً من اللباس، والحقيبة الكبيرة رفيقة للمرأة حتى اليوم.

المصادر

  • منتديات الإمام الغزالي

  • منتديات عالم حواء