العلماء يشرعون لمعرفة سر الكون

بدأ ما وصف بأنه اكبر وأغلى تجربة في تاريخ العلوم، بعد أن تم تشغيل اكبر نظام لتسريع تصادم الجزيئات في العالم، يعرف باسم «معجل هاردون». والهدف هو استكشاف أصل المادة ومحاكاة الانفجار العظيم الذي يعتقد العلماء أنه أسفر عن الكون في صورته الحالية.

وخلال التجربة، التي أُعد لها على مدى سنوات، والتي ستجرى بالقرب من جنيف على الحدود الفرنسية السويسرية، ستُطلق مئات الملايين من بروتونات الذرة وجزيئاتها في نفق بطول 27 كيلومترا تحت الأرض بسرعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلم. وينتج عن هذا كله 600 مليون تصادم بين الجزيئات في الثانية الواحدة، ويؤدي كل واحد من هذه التصادمات إلى انشطار آلاف الأجزاء من الجزيئات، التي ستُسجل وتُرصد تمهيدا للتعرف عليها.

وتبلغ تكلفة «معجل هاردون التصادمي الهائل» أكثر من أربعة مليارات يورو، وسيبدأ تشغيله رسميا في الحادي والعشرين من أكتوبر 2009م. وتشارك فيه كل دول العالم المتقدم.

البعض وصف المشروع بحكاية «أليس في بلاد العجائب».. كل شيء حولها غريب عجيب ومدهش، في حين وصفه آخرون بأنه مشروع يوم القيامة الذي سيفتح أبواب الجحيم، لأن المشروع ذاته الذي يستهدف التحقق من طريقة وتفاصيل نشوء الكون، يتحدى الطبيعة بصورة لا سابق لها، بل يمكن أن ينهي وجود البشرية كلها في طرفة عين، كما يقول معارضوه.

وبعيدا عن المخاوف التي وصلت إلى حد رفع عشرات القضايا أمام المحاكم الأميركية والأوروبية لوقف العمل في المشروع الذي انتظره العلماء منذ أكثر من عشرين عاما، فقد كشفت المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (الأربعاء الماضي 3 سبتمبر) عبر الإنترنت عن أكبر جهاز في العالم لتحطيم الذرة. وهو جهاز عملاق أسطواني الشكل يزيد طوله على سبعة وعشرين كيلومترا تم تركيبه في نفق يتراوح عمقه بين 150 و500 قدم تحت الأرض في منطقة الحدود السويسرية – الفرنسية قريبا من مدينة جنيف.

ويقول العلماء المشرفون على المشروع أن محطم الذرة سوف يستكشف أصغر مكونات الذرة ليصل بالتالي، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، إلى تمثيل واقعة الانفجار الكبير الذي تقول النظريات العلمية أن الكون نشأ بعد ذلك الانفجار وبسببه.

ويأمل العلماء أن يكون في إمكانهم بفضل هذا الجهاز العملاق إلقاء نظرة أكثر قربا على مكونات المادة لملء الفجوات المعرفية التي أوجدتها النظريات العلمية المتداولة حول نشوء الكون واحتمال تغيير أو تعديل بعض هذه النظريات.

شعاعان متعاكسان

ووفقا للخطط الموضوعة، التي وصل إلى سويسرا لمتابعتها علماء من ثمانين دولة، بينهم 1200 عالم من الولايات المتحدة وحدها، سيتم إطلاق شعاع من البروتونات في الجهاز المحاط من كل جوانبه بأكبر وأقوى مغناطيس اصطناعي عرفته البشرية حتى الآن، لتقطع أكثر من سبعة وعشرين كيلومترا عكس اتجاه عقارب الساعة، ولتظل تدور وتدور بمعدل أحد عشر ألف دورة في الثانية الواحدة، إلى أن تتساوى سرعة البروتونات مع سرعة الضوء.

وبعد التأكد من نجاح هذه المرحلة، سيتم إطلاق شعاع آخر من البروتونات في الاتجاه المعاكس لاتجاه الشعاع الأول هذه المرة، أي في اتجاه عقارب الساعة، ويظل الشعاعان يدوران في اتجاهين متعاكسين من دون أن يصطدما إلى أن تتساوى سرعة البروتونات في الشعاعين، ومن ثم يعمل العلماء على توجيه الشعاعين نحو بعضهما البعض من أجل أن يحدث الاصطدام والانفجار الكبير الذي يخشى البعض أن يسبب، نظرا إلى الطاقة الهائلة القوة المتولدة عنه، حدوث «ميني ثقب أسود» قد يهدد الكرة الأرضية كلها، لكن المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية المشرفة على المشروع تنفي هذا الاحتمال.

وفي داخل النفق يوجد مناطق على شكل قاعات ضخمة يصل حجم إحداها إلى حجم عمارة من سبعة طوابق، وقد تم في هذه القاعة وضع آلاف المجسات والأجهزة الدقيقة لقياس الطاقة المتولدة عن الانفجار.

أصغر من البروتون والنيوترون

يقول العلماء انه سيتولد عن الاصطدام الهائل انقسام البروتونات إلى أجزائها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلماء كانوا حتى وقت قريب يؤكدون أن البروتونات والنيوترونات هي أصغر أجزاء الذرة، لكن العلم الحديث يؤكد خطأ هذا الاعتقاد، وأن هناك ما هو أصغر. وقد أطلق العلماء على الجزئين الأصغرين اسم «وارك» و«غلونز».

ويأمل العلماء خلق ظروف في المختبر تشبه الظروف التي أحاطت بأجزاء الثانية الأولى التي أعقبت الانفجار الكبير، لكي يتعرفوا، عن قرب وعلى الطبيعة، على ما يسمى المادة السوداء واللامادة، بالإضافة إلى الأبعاد الخفية للفضاء والزمن التي تحدث عنها أينشتاين في نظريته الشهيرة. وكان علماء كثيرون قد بدأوا قبل نحو عشرين عاما تجارب لخلق اصطدام بين مكونات الذرة في المختبرات على أمل الوصول إلى ما هو أصغر من البروتون والنيوترون، وقد نجحوا في النهاية في التعرف على الكوارك والغلونز.

ويوضح العلماء المتحمسون لنظرية الانفجار الكبير أن الأجزاء المتناثرة من البروتونات المحطمة في ذلك الزمن الموغل في القدم، كانت ذات قوة جاذبية هائلة بحيث استطاعت الالتصاق فورا بالكواكب والنجوم. وتقول المتحدثة الرسمية باسم الفريق الأميركي المشارك في المشروع كيتيوركوفيتش إن محطم الذرة الأوروبي، الذي تعتبر الولايات المتحدة واليابان أكبر المشاركين في تمويله، قد يغير الكثير من النظريات العلمية المتداولة. وتبلغ الحصة الأميركية في ميزانية المشروع 541 مليون دولار.

وحسب مركز كيرن فإن هذا المعجل هو أضخم آلة شيدها الإنسان على الإطلاق. وتبلغ درجة الحرارة داخل المعجل سالب 271.3 درجة مئوية أي أقل بقليل من درجة الحرارة في الكون الخارجي، الذي تبلغ درجة الحرارة فيه سالب 270.4 درجة مئوية. وفي الوقت نفسه ستصبح درجة الحرارة عند انفجار الذرات داخل المعجل أكبر مائة ألف مرة منها في مركز الشمس. كما سيجبر مجال مغناطيسي أقوى مائة ألف مرة من المجال المغناطيسي للأرض الجزيئات على الانتظام في مدارها.

وستحتاج التجربة إلى 120 ميجاوات من التيار الكهربائي وهي نفس الكمية التي تحتاجها مدينة مثل جنيف، التي يقارب عدد سكانها 160 ألف نسمة. ومن المنتظر أن يتم التصادم بين بروتونات الذرة بسرعة الضوء تقريبا وأن تقطع 54211 دورة في الثانية في هذه الماسورة العملاقة تحت الأرض وستقطع مسافة 299780 كيلومتر في الثانية. ويهدف العلماء من هذه التجربة إلى إيجاد إجابات على تساؤلات عظيمة بقدر عظم هذه الآلة الهائلة، إذ ينتظر العلماء المشاركون في المشروع، والذين يقدر عددهم بعدة آلاف، أن يحصلوا على معلومات أساسية عن المادة السديمية وعن اللغز الذي طالما حيرهم بشأن كيفية تحول المادة إلى كتلة وكيفية تطور الكون

ومن ضمن الألغاز التي يأمل العلماء في حلها من وراء المشروع هو إيجاد إجابة على السؤال، الذي طالما حير العلماء: لماذا لم ينتج عن الانفجار العظيم قدر متساو من المادة والمادة المضادة بحيث تنهي بعضها بعضا دون أن تبقي أي مادة لنشأة النجوم والكواكب والإنسان؟ أو بحسب تعبير عالم الفيزياء الألماني زيغفريد بيتكه: لماذا نحن موجودون من الأصل؟

 

وكان هذا السؤال الدافع لبيتكه وزملائه في معهد ماكس بلانك لتقديم مساهمات أساسية في مشروع المعجل النووي، إذ ساهموا في تطوير كشافات هائلة لرصد الجسيمات، التي تنتج عن كل انفجار في المعجل. ويقارب حجم هذه الكشافات التي تحمل اسم "أطلس" حجم منزل من خمسة طوابق. ويأمل العلماء من وراء رصد وابل الجسيمات الناتج عن الانفجار معرفة حقيقة العديد من جزيئات المادة المجهولة لديهم حتى الآن ومعرفة معلومات بشأن قوانين فيزيائية جديدة خاصة ما يعرف بجزيء هيجز المفترض وجوده في الكون والذي ينتظر العلماء من ورائه أن يفسر لهم سبب امتلاك الجزيئات لكتلة.

وحسب نظرية عالم الفيزياء البريطاني بيتر هيجز فإن الكون يتغلغل فيه نوع من المادة الهلامية التي تكبح الجزيئات بشكل يتفاوت مع تفاوت صفات هذه الجزيئات مما يمنحها الكتلة. ولا يكتمل تصور العلماء عن بناء المادة بدون هذه الآلية المفترضة.

 وأكد رولف ديتر هوير مدير مركز "كيرن" أن "نتائج القياسات التي أجريت في المعجلات السابقة بالإضافة إلى ما تذهب إليه نظرية هيجز تشير بوضوح إلى أن جزئ هيجز يقع بالتأكيد في منطقة الطاقة بالمعجل". وأشار العالم الفيزيائي الأمريكي ديفيد جروس الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2004:"غير أن جزئ هيجز لن يكون بالتأكيد الاكتشاف الأول لمركز كيرن".

وتتوقع فرق الباحثين أن تستغرق معرفة حقيقة هذا الجزيء نحو خمس سنوات وأن:" تسبقها اكتشافات أخرى مثيرة لم تكن في حسبان أحد" حسب جروس. ومن غير المستبعد أن ينتج المعجل لأول مرة جزيئات الماد السديمية المحيرة للعلماء. فعلى الرغم من أن هذه المادة غير المرئية تشكل نحو 80 في المائة من كتلة الكون إلا أنها لا تعرف إلا من خلال قوة جاذبيتها ومازال العلماء يجهلون حتى الآن الجزيئات التي تتكون منها هذه المادة. ويأمل هوير في "أن يفتح مركز كيرن نافذة على هذا الكون السدمي" ويستدرك بالقول:"ولكن هذا ليس مضمونا بالطبع غير أن احتمال العثور على مرشحين للمادة السديمية هو احتمال كبير نسبيا".

دعاوى لوقف المشروع

تقول الأخبار أن العشرات من جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان رفعت دعاوى أمام المحاكم الأوروبية والأميركية تطالب بوقف العمل في المشروع الذي وصفته بأنه مشروع يوم القيامة الذي سيفتح أبواب الجحيم. وتجدر الإشارة إلى أن دعاوى مماثلة فشلت عام 1999 في تحقيق أهدافها لوقف العمل في مشروع مماثل، لكن أصغر حجما وأقل قوة، يتعلق بجهاز لتحطيم الذرة أقيم في مختبر مانهاتن الوطني بولاية نيويورك.

كما أثار محطم للذرة أقيم قبل أكثر من خمس سنوات خارج مدينة شيكاغو المئات من الشكاوى والدعاوى لكن من دون جدوى. ويحمل هذا المحطم اسم «فيرميلاب»، وهو مجهز بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا، لكن العلماء يقولون إن محطم الذرة المقام في سويسرا قادر على إنتاج طاقة تفوق ما ينتجه «فيرميلاب» بسبع مرات.

جنيف (رويترز) - قال متحدث باسم المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) إن العلماء استأنفوا تجارب محاكاة الانفجار العظيم في مصادم الهدرونات الكبير بغية كشف النقاب عن لغز ماهية الكتلة خلال أبحاثهم التي تستمر عامين دون انقطاع وتنتهي في أواخر عام 2011 .

وقال جيمس جيلز المتحدث باسم المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات لرويترز يوم الخميس إن جسيم بوزون هيجز الافتراضي قد يظهر خلال التجربة المطولة التي استأنفت عملها في الآونة الأخيرة.

وقال جيلز في إشارة إلى جسيم بوزون هيجز "انه موجود ولدينا فرصة ملموسة كي نرصده." وبوزون هيجز هو جسيم تخيلي اقترحه الفيزيائي الاسكتلندي بيتر هيجز في ستينات القرن الماضي ويعتقد انه يعطي للجسيمات تماسكها وكتلتها وهذا الجسيم يمثل الغاية القصوى من إنشاء مصادم الهدرونات الكبير.

وقال جيلز إن التجارب التي تستمر على مدى يتراوح من 18 إلى 24 شهرا - في مصادم الهدرونات الكبير بالمختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات الواقع تحت منطقة الحدود الفرنسية السويسرية المشتركة قرب جنيف والتابع لمنظمة سيرن - قد تتمخض عن طائفة هائلة من المعلومات التي قد تفك شفرة معضلة نشأة الكون وتكوين النجوم والكواكب ومختلف الأجرام لاسيما نشوء الحياة على كوكبنا.

وحتى إذا لم يتسن رصد بوزون هيجز فان هذا لا يعني انتفاء وجوده إذ ستستمر أنشطة المصادم من خلال إحداث عدد لا نهائي من التصادمات بين حزمتي جسيمات تسيران في اتجاهين متقابلين وتدوران حول أنفاق يبلغ طول مدارها 27 كيلومترا بالمختبر وبطاقة دون سبعة تريليونات إلكترون فولت لمحاكاة الظروف التي أعقبت الانفجار العظيم الذي حدث قبل 13.7 مليار عام والذي نشأ عنه الكون.

والإلكترون فولت هو وحدة لقياس الطاقة ويعادل كمية طاقة الحركة التي يكتسبها إلكترون وحيد حر الحركة عند تسريعه بواسطة جهد كهربائي ساكن قيمته فولت واحد في الفراغ.

وكان مصادم الهدرونات الكبير قد مر بسلسلة من التشغيل والتوقف سواء بسبب تعطل الأجهزة أو للتجهيز للمراحل التالية من الأبحاث إلا أن الفيزيائيين والمهندسين والإداريين في سيرن قرروا خلال اجتماع عقد الأسبوع الماضي في منطقة شاموني بفرنسا مواصلة هذه الأبحاث.

والمصادم عبارة عن مجمع ضخم من المغناطيسات العملاقة والأجهزة الالكترونية المعقدة والحواسيب بلغت كلفته عشرة مليارات دولار.

وسيتم جمع وتسجيل ثم تحليل البيانات المستقاة من هذه التجارب بمعرفة شبكة ضخمة تضم عشرة آلاف باحث ليس في سيرن فحسب بل في نحو 30 دولة في مختلف أرجاء العالم.

وبحلول أواخر العام المقبل سيغلق المصادم أبوابه لمدة 12 شهرا من اجل إعداد الجهاز لسلسلة جديدة من التصادمات بطاقة تصل إلى 14 تريليون فولت ربما في مستهل عام 2013 .

 

المصدر: الموسوعة الحرة